عاد علي من سجنهم أقوى مما كان
الكاتب: أم سارة
عاد علي من سجنهم أقوى مما كان
الكاتب: أم سارة
لم يعد يوم الجمعة يوماً للراحة والاسترخاء. بل أصبح يوم الخوف والقلق، وانتظار نهاية النهار، على أمل أن يمر بسلام دون أخبار الموت أو الاعتقال.
يوم الجمعة، الواحدة بعد الظهر، يرنّ جرس الهاتف. إنه توقيت غير مريح. تباطأت خطواتي بالوصول إلى ذلك الهاتف.
يا ترى من المتصل؟ ماهو الخبر الذي سأسمعه؟ صوت أختي. إنه على غير عادته. نادتني وكأنها تستنجد “لقد أخذوه، أخذوا علي، تعالي بسرعة”. وقفت حينها وقفة العاجز الذي لا يقوى على الحركة. فما الذي سأفعله أنا؟ وهل من أحد قادر على الوقوف في وجه سجان ظالم؟
توجهت إلى بيت أهلي. لأكون معهم في تلك اللحظات. رأيت العجز والقهر في عيونهم. ابنهم المدلّل الذي طال انتظار قدومه ليزين حياتهم، ها هو اليوم بيد من لا يعرف الرحمة ولا الإنسانية. اقتحموا البيت، حطّموا باب غرفته، وأخذوه أمام أعينهم.
لم يستطع أهلي منع العشرات من الجنود المسلحين، الذين دخلوا إلى البيت من سطح المنزل، دون استئذان أو احترام لحرمة البيت. حاولت أمي منعهم بكل وسائل الاسترحام والرجاء، “ابني مادخلو،ماكان بالمظاهرة والله كان بغرفته”. لكنها لم تعلم بأنه لا قلوب لمن تخاطب.
قيّدوا يديه، أغمضوا عينيه، وتوجهوا به خارج المنزل. لم يستطع والدي رؤية ابنه في هذا المشهد. حاول منعهم بأسلوبه المقنع حسب اعتقاده “يا أخي هذا ابني. وهذا دفتر العائلة. كان في غرفته ولم يخرج إلى الشارع”. لكن قسوة قلوبهم منعتهم من سماع صوت الأب وبكاء الأم. ساقوه إلى ذلك الباص الذي تجمع بداخله العشرات من أبناء الحي، و الذين أصبح مصيرهم مجهولاً منذ تلك اللحظة.
هناك، على طرف الطريق، يقف ذلك الضابط الضخم الذي تجمع حوله عدد من الجنود. يراقب ما يحدث بابتسامة سخرية.
يبدو وكأنه صاحب الكلمة الأكبر. توجه والدي نحوه. محاولة أخيرة منه لإنقاذ ولده. “سيدي ابني كان بالبيت معنا. فاتوا أخدوه من غرفته، صدقني ماعمل شي”. صرخ ذلك الضابط المتسلط في وجه أبي “نحن لم ندخل بيتك،نحن لاندخل البيوت”.
على مرأى عشرات الجنود وأهالي الحي، كذّب ذلك الضابط والدي رغم أنه كان مراقبا لكل ما حدث. أيقن حينها والدي بأنه لا جدوى من المحاولات مع هؤلاء. وعاد إلى البيت مكسور الخاطر يخفي دموعه بين يديه.
لم يعد بإمكاننا سوى الانتظار. ومتابعة أخبار المعتقلين. علّنا نسمع خبراً يطمئن قلوبنا. أسئلة تكاد لا تفارقنا جميعاً:
هل هو جائع؟ هل ضربوه؟ هل هو بخير؟ مرت الأيام ولا أخبار عن علي سوى الوعود والوعود. وبعد أن أصابنا اليأس من رؤيته ثانية سمعنا خبراً عن دفعة من المعتقلين سيتم الافراج عنهم اليوم. ترقّبنا وكلّنا أمل بعودته سالماً إلينا.
نعم إنّه هو، هذا علي. إنّه بين مجموعة الشبان المفرج عنهم. أخيراً أتت تلك اللحظة التي سأرى أخي فيها. سأضمّه اليوم. سأنظر في عينيه وأقول له كم اشتقت إليه.
وصل علي إلى البيت. كنت أوّل من شاهده. كان متعباً جداً. حاول إخفاء الحروق الظاهرة على يديه. مسكت يده، شعرت بالألم الذي سببته له من مجرد لمسة. تركت يده، وتخلّيت عن ذلك الشعور بالحاجة إلى ضمّه، خوفاً من أن أسبب له المزيد من الألم. لم يتركوا مكاناً في جسده إلّا و فيه أثر جرح أو علامة لسجائرهم. حاول علي إخفاء كل ذلك. لم أستطيع النظر في عينيه التي تحمل كل الألم والأسى، لم أستطع أن أقول له أنني اشتقت له لأن جسده الضعيف وتلك النظرة في عينيه الخجلة المنكسرة منعتني من النظر إليها. رفع رأسي إليه وقالها بصوت يخفي الكثير من الآهات “خلّوني أسجد لبشار”.
لكنها لم تكن سوى أيام حتى عاد علي أقوى مما كان. لم يعلموا بأن ظلمهم قتل الخوف بداخله.