أم أحمد لا تزال تعيش أمل الحرية لابنها وللوطن
الكاتب: نرمين عبد الحميد
أم أحمد لا تزال تعيش أمل الحرية لابنها وللوطن
الكاتب: نرمين عبد الحميد
لم تفقد الأمل بانتصار الثورة السورية ورحيل النظام وبناء سوريا الحرة. الخالة أم أحمد تلك المرأة السبعينية، الأم والمربية الصابرة.
لم تتردد يوماً بتقديم الغالي والنفيس فداء للوطن والثورة. عاشت عمرها ساعية لتربية أولادها وتعليمهم على حب الله والوطن. ابنها البكر أحمد، أب لثلاثة أولاد، بنت وصبيين. ما إن اشتعلت شرارة الثورة الأولى في آذار/مارس سنة 2011 حتى كان أول الثائرين على الظلم والطغيان. كان أحمد ناشطاً حقوقياً ورجل دين يحظى باحترام أهالي ادلب. لم يهدأ ليلاً نهاراً في دعم الثورة السورية، والدعوة للإفراج عن المعتقلين وإجلاء جرحى المظاهرات السلمية.
في الأول من شباط/فبراير 2012، أقدم عناصر من الجيش والأمن المتمركزين فوق مبنى البلدية والمحافظة باستهداف إحدى المظاهرات التي كانت تنوي المرور من دوار السبع بحرات الواقع ضمن المربع الأمني. حينها سقط العديد من القتلى والجرحى، ولم يستطيع أحد التقدم لسحبهم بسبب رصد القناصة للمكان. فتطوّع أحمد بهذه المهمة. تقدم وهو ينادي عناصر الأمن “ﻻ تطلقوا النار، سلميَة سلميَة”. أراد إسعاف الجرحى، لكن لم يستجب أحد لندائه. أطلق عليه أحد القناصة رصاصة استقرت في رئته اليمنى. مكث أحمد بعدها 10 أيام يصارع الموت، حتى فارق الحياة فارتقى شهيداً، وشيَع جثمانه في موكب مهيب حضره عشرات الآلاف من أبناء المدينة.
وصلنا نبأ استشهاده، لم أستطع يومها الذهاب للمشاركة في وداعه أو حتى عزاء محبيه. كنت المسؤولة عن رعاية جدتي المريضة. كنت حزينة جدا لفقدان الأخ أحمد فهو شخص لا يتكرر رحمه الله.
بعد مرور سبعة أيام على استشهاده سافرت الى إدلب وانا حائرةَ بين عبارات العزاء والتهنئة، الواجب قولها للخالة ام أحمد. فقد كانت أول مرة احضر فيها هكذا حدث. دخلت بيت المرحوم. حبست دمعتي وانا أبحث بين وجوه المعزَين عن الخالة.
بدت المسافة طويلة جداً بين دخولي الباب والوصول إليها، شاهدتها جالسة هناك تمسك السبحة بيدها وهي تتمتم. اقتربت منها فأخذتني بين ذراعيها على الفور كادت الكلمات تخرج من فمي بصعوبة وأول ما قلته: “العمر الك يا خالة الله يجعلوه بالجنة”. قاطعتني قائلة “لا تعزيني هنّيني هنّيني، أحمد شهيد”.
مضت ساعات العزاء وعدت مع الخالة إلى منزلها. هناك التقيت ابنها محمد الذي أخذ إجازة من الخدمة الإلزامية لوداع أخيه الكبير وحضور مراسم العزاء. دخل علينا إبنها الصغير حاملاً بيده صورة كبيرة، ما ان أظهرها حتى ركضت الخالة أم أحمد وحضنت الصورة التي أعدَها لأخيه لوضعها على الحائط. وكأنما كانت تحضن ابنها الفقيد وقد غمرت الدموع عينيها ولم تشأ تركها بسهولة.
في اليوم التالي كان علينا العودة الى القرية. في طريق الذهاب الى الكراج (محطة النقليات) علمنا بان هناك تجمعاً، ذهبنا للمشاركة ولكن الأخبار توالت عن حصار يفرضه الجيش على إدلب بـ 30 دبابة. وبدأت القذائف تنهال سريعا على المدينة، والناس تتراكض في الشارع خوفاً. ذهبنا مسرعين الى الكراج، استطعنا بصعوبة الخروج من المدينة وقلوبنا معلقة بإدلب وما قد يحدث.
بعد أيام قليلة سقطت مدينة إدلب بيد جيش النظام. أعلن محمد (24 عاما) الانشقاق عن جيش النظام وعدم العودة الى قطعته العسكرية حيث كانت خدمته. غادر منزل أهله ليختبئ بعيداً عن أعين شبيحة وجيش النظام. ثم غادر سوريا ليعيش في مخيمات اللاجئين في الأراضي التركية. لم يتحمل مدة طويلة البعد عن الأهل، حادثني بأنه يريد دخول الأراضي السورية ليرى عائلته ويتابع علاجه. كان قد أصيب بعدوى التهاب الكبد الجرثومي، وكنت قد نصحته بعدم القدوم بشدة، واقترحت أن يكتفي بلقاء عائلته في منزلنا بعيداً عن مناطق سيطرة النظام، إلّا أنه لم يصغِ إلي.
في صباح يوم الجمعة رن جرس الهاتف، إنه رقم بيت الخالة أم أحمد. أجبت وفاجأني الصوت، إنه محمد لم يستطع البقاء بعيداً عن منزله. تحادثنا قليلاً وأنهينا المكالمة. لم ينتهِ اليوم حتى جاءنا نبأ اعتقاله الصادم. حضرت قوات الأمن سريعاً واعتقلته أمام عيني الخالة أم أحمد التي لم تجفّ دموعها على ابنها الفقيد بعد.
مرّت أيام طرق أهله خلالها كل أبواب فروع الأمن والمسؤولين للسؤال عنه. سمعوا الكثير عن كونه بخير وسيتم الإفراج عنه قريباً، إلّا أن الوعود لم تبدد ما بداخلنا من خوفٍ كبيرٍ.
ذهبت مرة لزيارة الخالة أم أحمد. حدثتني بأنها رأت محمد في المنام، وهو بحال جيدة، وأن أشخاصاً قالوا أنهم شاهدوه على قيد الحياة في احد فروع أمن النظام في دمشق. بدت وكأنها مطمئنة وتحاول طمأنتنا عنه، إلّا أن الحقيقة هي أنها تحاول طمأنة نفسها بقوة إيمانها وصبرها.
مرّ قرابة العام والنصف على اعتقاله، حتى ورد اسمه باتفاقية تبادل بعض الأسرى الضباط لدى الثوار ببعض المعتقلين في سجون النظام. وكان الردّ أنه تم تصفيته في شهرتموز/يوليو 2013 ، ودفن في مقبرة جماعية.
لربما لم تقتنع الخالة بوفاة ابنها الثاني في المعتقل، فالعائلة حتى الآن لم تتسلّم أي دليل ولا حتى بطاقته الشخصية، الخالة لا تزال تعيش أمل الحريّة لابنها وللوطن.