أمي لا تعرف أنها ناشطة
الكاتب: رافية سلامة
أمي لا تعرف أنها ناشطة
الكاتب: رافية سلامة
أمي امرأة في نهاية العقد الرابع من العمر. رغم أنها تداوم في مدرسة لمحو الأمية منذ أكثر من 10 سنوات لم تستطع تعلّم القراءة. تعرف الأحرف وأصواتها وكيف تكون أشكالها في أوائل ومنتصف وأواخر الكلمات، لكن هذا لم يساعدها في تحقيق معجزة ربط تلك الرموز بكلمات منطوقة. لم تعانقني يوماً، فهي تكره أن يلامسها أحد. خصصت أمي غرفة في المنزل لـ”الكراكيب”. تحتفظ فيها بعربات أطفال قديمة، بكراتين ورق مقوى، بأكياس من كافة الأشكال والأحجام والألوان، بعصارات معجون أسنان فارغة. كلّه يلزم حسب وجهة نظرها في الحياة.
أنَّبَتني بشدة عندما اعتقلوني للمرّة الأولى، أنا الابنة الناشطة غريبة الأطوار بالنسبة لها. قالت: “مالنا قدهن لهدول” وكررتها. وكأن هذا حتماً سينهي كل شيء بالنسبة لي.
كان تأنيبها لي أخفّ وطأة حين تعرّضت للاعتقال للمرة الثانية، ولأيام أيضاً. كان أيمن ابن جارتنا في البيت الذي نملكه في غوطة دمشق، والذي كان مخصصاً ليسكنه أخي متى أراد الزواج قد اعتقل.
عندما خرجت للمرة الثالثة من السجن الذي استمر لأشهر قليلة، كانت أمي قد قررت انهاء علاقتها بصديقتها العزيزة في المدرسة، لأنها مؤيدة لبشار الأسد.
في العام 2011 رغبت وأصدقائي بزيارة الغوطة الشرقية، تحديداً بعد أن اقتحمها الجيش ونكّل بأهلها. وكانت أمي مصدرنا للمعلومات، فرغم هروب معظم الأهالي من المنطقة، كانت ورغماً عن مخاوف أبي تصرّ على الذهاب إلى هناك لتطمئن على المنزل. تسقي النباتات وتأخذ بعض الأطعمة والنقود لجاراتها اللواتي بقين هناك. حكت لنا عن أماكن الحواجز وطريقة التفتيش، وكيف يتشدد العناصر مع أسماء عائلات دون غيرها، وماهي الأوقات التي يجب أن نلتزمها للذهاب والعودة. كيف هو وضع الكهرباء والخدمات هناك، وأفضل ما يمكن تقديمه للأهالي الذين تعرفهم.
كانت شوكة الجيش الحر قد أصبحت أكثر قوة، وأعاد فرض سيطرته على المنطقة مع نهاية العام. هنا كان معظم الأهالي اتخذوا قراراً نهائياً بشأن البقاء في المنطقة أو تركها، وكانت عودة إلى خدمات بدائية بشق الأنفس، وهي الحال التي ستسوء مع السنوات اللاحقة، لكن أمي دون كل من رأيت على طريق الذهاب والعودة، لم تتوقف عن التنقل وإحضار الخبز وما تستطيع من أطعمة ونقود حتى فرض الحصار الكامل بشكل نهائي نهاية عام 2013.
النساء أكثر من الرجال دوماً هن من كن يذهبن ليتفقدن المنازل، يحزنّ لما آل إليه الحال، ويأخذن بعض الأغراض عائدات إلى دمشق، حيث استأجر بعضهم بيوتاً بأسعار مضاعفة، بينما رجع الآخرون إلى منزل العائلة، محشورين آباء وأطفالاً في بيوت سكنوها صغاراً.
وحدها أمي كانت تذهب مرتين أو ثلاث في الأسبوع، متحملة طريق سفر متعب يصل المدينة بريفها، يستغرق يوماً أو أكثر لتخطيه، رغم أن عدد كيلومتراته لا يجاوز أصابع اليد الواحدة.
ولطالما تساءلت إذا كانت تعرف بالضبط ما تقوم به، تلك التي تسألني ببراءة كلما ذهبت زائرة: “مطوّلة القصة؟ أيمتا بدنا نخلص؟” وكأني لاعتقالي، مصدرها الذي لا يشك برأيه، وتحكي لي خلافاتها مع صديقاتها في المدرسة الذين لا يعرفون كم هو ظالم هذا النظام، مفتخرة بأنها لا تؤيد مجرمين وقتلة.
كادت قبل فترة أن تسبب لي مشكلة مع إحدى صديقاتي السابقات ممن يؤيدن نظام الحكم القائم، فعندما أجابتها سعيدة عما أعمله حالياً دون دراية منها بميول صديقتي السياسية، بأنني أنشط مع المعارضة مع هزة رأس ذات معنى غير ضمني بالمرة، كادت تلك الصديقة أن توديني معتقلة بإخبار عمها الذي يعمل مع الدفاع الوطني عن أمري. علمت أمي عندها أنها لا يمكن أن تكون بكامل راحتها عند الحديث في السياسة كما تهيأ لها، وتذمرت لي قائلة “أي ليش عملتوا ثورة لكن؟”
تتابع أمي الأخبار لتعلمني بها على الهاتف مع تشفير ما أمكن بطريقتها الخاصة، “هدول، هدنك، اللي ما بتحبيهن” والكثير مما يخرج فقط من أمي الجميلة، التي أرى في شجاعتها العفوية من أين يمكن للمرء أن يجني إصراره في أيام بائسة كالتي يمر بها ناشطو دمشق اليوم. هي من لا تعرف أنها ناشطة.