مهجرو كركوك ما يزالون مشردين
يجد الكورد انفسهم غير قادرين على استعادة الأرض التي كانت في السابق ملكهم
مهجرو كركوك ما يزالون مشردين
يجد الكورد انفسهم غير قادرين على استعادة الأرض التي كانت في السابق ملكهم
يجلس علي كريم محمد تحت شمس الصيف الساطعة وسط صفوف وصفوف من الخيام الخاكية التي كان الجيش العراقي يستخدمها في السابق. وتنتصب بالقرب منه لوحة خشبية كبيرة كتب عليها "مكان للزبالة", وصرخ الرجل الذي يبلغ من العمر (31) سنة وأب لستة أطفال "أريد ان يعرف العالم انني أعيش في الزبالة".
وكان علي قد طرد من كركوك عام 2002 بموجب قرار الحكومة الخاص بالتطهير العرقي. إلا انه عاد بعد سقوط النظام الذي أجبره على الخروج ليطالب ببيته, وما يزال في الانتظار حتى الآن.
وقال وهو يبدو رجلاً عنيداً حتى في هزيمته "لم أعد استطيع التحمل أكثر من ذلك. لا أستطيع ان أرى بيتي محتلاً من هنا". وأشار علي بيده نحو بيته الذي يقع وراء المعسكر الذي يضم (130) خيمة والذي بات بمثابة محلته السكنية. وقال "اذا استمر الوضع على هذه الشاكلة فسأكون مضطراً لأخذ القانون بيدي".
ويعيش علي في مدينة الخيام مع ما يقارب (80) شخصاً من الذين أجبروا على الخروج من المدينة قبل سنوات, ثم عادوا لاستعادة بيوتهم التي أعطيت للمستوطنين العرب الذين جلبهم نظام البعث من وسط وجنوب العراق, كجزء من جهوده "لتعريب" المدينة الغنية بالنفط والمناطق المحيطة بها.
عندما أسقط نظام البعث في نيسان الماضي, اعتقد علي مع مئات الآلاف من الآخرين مثله من الكورد والتركمان والآشوريين المسيحيين ان بامكانهم العودة أخيراً واستعادة بيوتهم وأعمالهم وعوائلهم وحياتهم في المدينة التي يسمونها الوطن.
وعاد القليل منهم اذ ان الكثير لم يفعلوا ذلك, كما ذكر ذلك حسيب روشبياني المسؤول عن شؤون الأشخاص المهجرين داخلياً في محافظة كركوك.
وبدلاً من استعادة بيوتهم, فان ما يقارب (30) ألف مهجر يعيش خالياً داخل وحول كركوك في الخيام والملاجئ المؤقتة في (61) موقعاً مختلفاً مثل ملعب المدينة الرياضي ومعسكر سابق للجيش العراقي, وبنايات حكومية وعدد من التجمعات السكنية غير الشرعية.
وبعد سنة من سقوط النظام شكلت سلطة التحالف المؤقتة, هيئة دعاوى الأملاك العراقية لتسجيل وحل النزاعات الخاصة بالملكية.
وقد قام الناس بتسجيل شكاواهم, وقبلت تلك الشكاوي التي امتدت ضمن الفترة من تموز عام 1968 وحتى التاسع من نيسان عام 2003. ولكن الهيئة لم تتوصل حتى الآن الى حل أي نزاع.
ولم يكن لدى المسؤولين في سلطة التحالف الكثير ليقولوه عن الافتقار الى اتخاذ الاجراءات ما عدا القول ان كركوك قضية "معقدة".
ان المعقد بشأن كركوك هو التنوع العرقي في منطقة رئيسة في انتاجها النفطي, وتاريخ من عقود التطهير العرقي.
وكانت البداية في الستينات من القرن الماضي عندما بدأت حملة نظام البعث لتطبيق "التعريب" بهدف تغيير التوازن السكاني وذلك من خلال اجبار الغالبية الكوردية والمجتمعات التركمانية والمسيحية الأصغر, على الخروج من المناطق القريبة من حقول النفط واحلال المستوطنين العرب محلهم.
وأصبحت الحملة أكثر انتظاماً في السبعينات عندما شكلت الحكومة البعثية لجنة شؤون الشمال التابعة لمجلس قيادة الثورة والتي كلفت بمهمة اعادة توطين جماعية للسكان من غير العرب.
وقد جرى طرد ما يقارب مليون شخص من السكان الكورد والتركمان والآشوريين خارج مئات من القرى والمدن القريبة من حقول النفط المنتشرة على امتداد قوس يبدأ من خانقين ويمر خلال كركوك باتجاه الموصل.
اما المستوطنون العرب ومعظمهم من الفلاحين المنكودين من الجنوب فقد جرى اغراءهم بالتوجه الى الشمال بسكن مجاني, وسند ملكية, وأرض زراعية, وحوافز نقدية.
أما الأقليات العرقية الأخرى داخل مدينة كركوك فقد أجبرت على المغادرة لاحقاً.
وقد جرى تغيير الكثير من القوانين ليصبح الأمر صعباً أمام الكورد للتمسك بالملكية او الحصول على عمل. وقد جرى مكافأة العرب مالياً اذا تزوجوا بنساء كورديات. ولم تكن شهادات الميلاد تصدق إلا اذا كان المولود يحمل اسماً عربياً.
ونقل الموظفون الحكوميون الكورد الى خارج كوردستان ليعملوا في المناطق العربية, بينما تم تبديل الأسماء الكوردية الى عربية.
من جانب آخر جرت مصادرة الوثائق من دوائر المخابرات في كركوك بعد انتفاضة عام 1991, كذلك بعد 9/ نيسان من العام الماضي, والتي ثبت من خلال الاطلاع عليها وجود نوايا وآليات لتنفيذ حملة التطهير العرقي.
ومع سقوط نظام صدام حسين افترض اولئك الذين تعرضوا للطرد ان بمقدورهم استرجاع ممتلكاتهم يسرعة.
لكن سلطة التحالف المؤقتة وبدعم من القوات الأمريكية لم تشجع المطالبين بأملاكهم على العودة, بل ساندت بقوة المستوطنين العرب, وما يزال البعض منهم يعيش قي المنطقة منذ عقود من الزمن, حتى اولئك الذين غادروا بسرعة ما لبثوا ان عادوا عندما شاهدوا ان الولايات المتحدة تسمح للعرب بالبقاء.
وكحالة لعكس هذا الأمر, فان منطقة بشير التي تبعد (45) كلم جنوبي كركوك تشكل خير مثال, اذ ان التركمان الذين طردوا من أراضيهم في هذه المنطقة, عادوا اليها بعد الحرب في حين غادرها المستوطنون العرب, إلا ان العرب متشجعين بانتفاضة مقتدى الصدر في الجنوب عادوا في نيسان الماضي واحتلوا نصف الأراضي في المنطقة مجبرين بعض التركمان على الرحيل مرة أخرى.
وقي نيسان أيضاً كان عبد الفتاح الموسوي ممثل مقتدى الصدر في كركوك, وهو نفسه تركماني شيعي, قد بدأ يلقي الخطب المساندة للعرب قائلاً "نخن نؤكد لكم باننا لن نسمح بطرد أي عربي خارج بيته".
ويخشى صلاح بشيري, الذي عاد ليعيش على جزء من أرضه التي ما تزال بأيدي التركمان بان يكون المطرود اللاحق هو وعائلته. ويقوم صلاح بمراجعة سلطات محافظة كركوك يومياً ليبلغها "ان العرب قد انتهكوا الاتفاق". ولكن لحد الآن لم يتخذ أي اجراء لإنهاء عودة الاحتلال.
ان تشجيع هذه الحالة, مع صمت سلطات التحالف المؤقتة, قد ترك العائدين مع شعور من الخوف والخيبة, حيث يتوقع العديد منهم اندلاع العنف بين المستوطنين والعائدين.
وقال آزاد شيخاني, الذي كان رئيس هيئة دعاوى المهجرين داخلياً حتى نهاية نيسان "اذا لم تتبع الهيئة سياسة عادلة وواضحة فان الكورد والتركمان سيأخذون القانون بأيديهم, وسيؤدي هذا دون شك الى زيادة تدهور الوضع الأمني".
وعلى وفق ما ذكره آزاد قائلاً "ان ازاحتي من رئاسة الهيئة كانت البداية التي كشفت السياسة الحقيقية لسلطة التحالف المؤقتة تجاه كركوك والكورد, والتي تهدف الى المحافظة على واقع الأمر والابقاء على المستوطنين العرب".
ويعمل لدى هيئة دعاوى المهجرين داخلياً (8) محامين مسؤولين عن الشكاوي, إلا انه حتى الآن لم يعين أي قاض للحكم في النزاعات.
ويقول خادار مكرم أحد المحامين في الهيئة انهم لم يقدموا الدعاوى الى المحكمة نظراً لعدم وجود قانون عراقي يشمل نزاعات الأرض هذه.
وقال "نحن لا نستطيع التصرف قانونياً, اذا لم نر القانون منشوراً في صحيفة الوقائع العراقية. وهذه واحدة من المشاكل الرئيسة أمام هذه الهيئة".
وعلى صعيد آخر, يقول بول هارفي, ممثل سلطة التحالف المؤقنة في كركوك ان قضية الأشخاص المهجرين داخلياً هي قضية معقدة جداً و"تحتاج الى بعض الوقت لحلها".
لكن الوقت ينفد
ان المحاولات المجهضة للأشخاص المهجرين داخلياً من أجل العودة الى بيوتهم ومزارعهم, وبطء حركة سلطة التحالف المؤقتة باتجاه حل القضية, يمكن ان يؤدي الى صيف ساخن وطويل.
وقال أحد الأشخاص المهجرين والذي امتنع عن اعطاء اسمه "نحن بحاجة الى انتفاضة أخرى في كركوك". وهو يشير بذلك الى انتفاضة عام 1991 الكوردية, "لأن حقوقي ما تزال خلفي لما تتحقق بعد".
*سيروان غريب ـ محرر في صحيفة "هولاتي" ـ السليمانية