عندما تحوّلنا إلى جثة بكفن أسود
| الكاتب: هيا محمد
عندما تحوّلنا إلى جثة بكفن أسود
| الكاتب: هيا محمد
عند مفرق أثريا على طريق حلب الرقة وبتاريخ 3- 7- 2014 بدأت المتغيرات بالظهور. كنا إناثاً رائعات بألوان زاهية وثقة بالنفس تضاهي الرجال، يومها بدأنا بالتحول إلى جثة بكفن أسود لا يحق لها سوى أن تهز برأسها وتقول حاضر. رغم دناءة الطرف المتحكم واحتقارنا له وعدم اكتراثنا بقوانينه الهزيلة المعبرة عن مرض وعقد نفسية إلا أن ذاك التاريخ استطاع أن يهزني ويطبع شيئاً ما في روحي.استطاع أن يخيفني ويجعلني أقف كالأصنام عند صعود عنصر منهم إلى باصنا للتفتيش . عدا خوفي من الإشاعات التي تقول بأنهم سوف يعيدوننا إلى حلب لأننا بلا محرم ، كانت رحلتنا مغامرة كبيرة لكننا أردنا العودة إلى منزلنا في الرقة بغض النظر عن العواقب.
وصلنا إلى حاجزهم الأول، حاولت أن أغطي يدي بطرف العباءة بعد تنبيه أمي لي خشية أن ينبهر أحد المجاهدين بيدي (الجزء الوحيد الظاهر من جسدي)، فيخطفني من حضنها الدافئ لكن على سنة الله و رسوله. وصل أحد العناصر إلينا نحن (الحريم المجتمعين في نهاية الباص حسب الشرع كي لا نكون قريبين من الرجال)، بدأ يسال البنات اللواتي في المقدمة: مع من أنت قادمة ؟ فتجيبه، ليصرخ باسم الشاب الذي ذكرته فيقول ذاك حاضر. همست لأختي أن نذكر اسم أحد الشباب الذين نعرفهم وبالتأكيد سيقفون معنا، قالت لي يجب علينا عدم الكذب كي لا ننكشف ويكون العقاب قاسياً. جاء دورنا فسألني: من محرمك ؟ فأجبته على الفور: نحن قدمنا وحدنا. رد مستغرباً: وأين محرمك؟ أجبته: محرمنا عندكم. صمت بذهول وقال: نحن دوما متهمون لماذا تظلموننا؟ صمتت فطلب عندها هويتي وطبعا نبهني لأنني غير محجبة في الهوية فأجبته أنني كنت صغيرة آنذاك. تركنا بسلام ونزل، عندها تنفست الصعداء وكأنني نجوت للتو من حرب طاحنة مقدر لي الموت فيها، علمت أنها البداية وان القادم أعظم.
مع اقترابنا من حدود مدينة الرقة كانت الغصة تكاد تخنقني، حاولت مراراً أن أحبس دموعي لكنها أبت إلا أن تبلل تلك الرقعة السوداء التي تخفي ملامحي، ربما كانت الفائدة الوحيدة لهذه القماشة أن تخفي جروحنا واختناقاتنا.
بكيت كثيرا ، كلما تذكرت أن أبي المختطف لدى داعش لن يكون بانتظاري كالعادة في كراج المدينة (موقف سيارات النقل). بكيت كثيرا لأنني لن استطع معانقته والبوح له بما عانيته من غربة ومصاعب في مدينة حلب، ولن تكون فرحتي بالعودة إلى منزلنا الدافئ مكتملة. كانت روحي مكبلة بمزيج غريب من المشاعر “فرح، شوق، ألم، خوف”.
اقتربنا من حاجز المقص الذي كان اسمه رناناً ومخيفاً نتيجة ما انتشر من كلام عن فظاعة معاملته للإناث والذل الذي يمارسه عليهن . صعد المجاهد وطلب من سائق الباص أن يشعل الضوء، كانت الساعة قد قاربت التاسعة ولن يستطيع تأملنا وتفقدنا جيداً. دون أن يسأل الشباب أي شيء أو يطلب هوياتهم قدم إلينا مسرعاً. ازدادت دقات قلبي سرعة، مسكت عباءتي وشددت عليها ربما لشدة التوتر، كان منظره مرعباً، “ذقن طويلة، شعر أجعد يلامس كتفيه، ويلبس الباكستانية التي لم نشاهدها سابقا إلا على التلفاز”. وبنفس أسلوب زميله استجوب البنات أمامنا، في هذه الأثناء كنا أنا وأختي في جدال ونقاش هل نكذب أو نصدق، وكعادتنا اخترنا مواجهة مصيرنا وان نعترف بجريمة ارتكبناها حتّى لا نُدان بجرمين إن كشفونا.
وصل إلينا
من محرمك؟
نحن طالبات وما معنا محرم
وانهال علينا بالأسئلة كالرصاص، لم تترك لنا أي فسحة كي نرد عليه ونفهمه وضعنا وسبب عدم قدوم محرم معنا:
س- كيف تسافرون بلا محرم؟ أين تقيمون في حلب؟ لماذا تدرسون والمجاهدين يموتون؟ وما هذا النقاب الغير شرعي؟ وهل هذه عباءة يجوز لكِأن ترتديها أيتها الكافرة ؟
طبعا كنت مرتدية عباءة عريضة لا تظهر أية مفاتن، وأستر وجهي بالكامل حتى عيوني غير ظاهرة، وفجأة هبطت علينا الصاعقة عندما خيرنا بين مصادرة بطاقاتنا الجامعية أو طلب الحسبة كي تجلدنا.
في هذه الأثناء تذكرت أمي وقلقها علينا نظراً لتأخرنا. تداخلت في دماغي صور أمي وهي تبكي قلقاً، وصور إحدى “الجلادات” كما رسمتها سابقا في خيالي، ارتبكت لم أعد أعرف كيف أتصرف أو أرد عليه.
همست أختي: فلنعطه البطاقات أفضل من أن تأخذنا الحسبة.
قلت لها وقد اختلطت كلماتي بالعبرات: لن أعطيه بطاقتي، هذه لي لن أفعل.
فعاد بالصراخ ثانية عندها استسلمت له وأعطيته بطاقتي، امسكها بيده وأراد أن يمزقها.
صرخت بوجهه: أعدها لي وأجلب لنا الحسبة كي تأخذنا.
وبكل برود رد علي: لست حسب مزاجك أنا.
أخذها ومضى ركضت خلفه أختي، حاولت مناقشته “استهدي بالله يا شيخ”. وهو يصرخ بها كالمجنون “من سمح لك بالقدوم إلى هنا لم اطلب منك ذلك”.
في هذه الحالة الهستيرية التي لم أكن وقتها قادرة على استيعابها، ظهر أخي الصغير في الممر الفاصل بين مقاعد الباص، ركضت عليه عانقته وهو بكل هدوء يطلب مني النزول لأن ماما قدمت مع صديق لنا إلى الحاجز كي تأخذنا. طبعا لم تكن وقتها على علم بما حصل معنا. سارعت إلى النزول رأيت أمي أمامي، أسعفتني قدماي المنهكتان من السفر والخوف إلى الارتماء في حضنها كي أجهش باكية ، بدأت هي بالبكاء دون أن تعرف حتى سبب بكائي.
إيش في يا أمي شو عملولكن؟
بطاقاتنا أخذوها
وهو لا يزال يصرخ في وجهنا “لماذا تبكون لا داعي للبكاء ”
بدأت أمي تترجاه كي يعيد لنا البطاقات، وتبرر له سبب عدم وجود محرم معنا، كما تتعهد له بأنها لن ترسلنا من جديد إلى حلب.
لم أطق أن أرى أمي في هذه الحالة، ولا سيما أنني اعتدتها مكرمة غير خاضعة حتى في أيام النظام.
صرخت “ماما لا ترجيه بطالع بطاقة جديدة”
طبعا أمي لم تستسلم حتى حصلت عليها.
وهو بعد في هذا الموقف أمام الدموع والصراخ والترجي والذل والتي تعتبر مخزية بحقه وبحق الإسلام الذي يدعيه. برر موقفه بأننا أخواته، وهو يخاف علينا لذا كان قاسي القلب معنا. وبدأ يقبل رأس أخي الصغير الذي كان خائفا منه ويحاول الابتعاد عنه، لكن المجاهد أبى إلا أن يقبله وسمح لنا بالرحيل.
علمنا في ما بعد أن هذا المجاهد كان أحد المهاجرين من تونس. استطاع أن يذلنا ويضعنا في موقف لم يتجرأ النظام سابقا أن يفعله معنا. هذا المهاجر لم يعلم أننا يوما ما تحدينا قوات النظام وصرخنا بأعلى صوتنا، وكنا يومها بلا حجاب ونقف جنبا إلى جنب مع شباب الثورة.
لم يعرف أننا نحن من هتفنا بالحرية، وأطلقنا حماماتها في سماء سوريا، وهو من قدم من نواحٍ مظلمة ليظلم لنا حياتنا ويتحكم بنا باسم الدين، ويسرق كرامتنا بعد أن انطلقنا بثورة تحفظ لنا هذه الكرامة.