يوم تجديد البيعة للرئيس بشار الأسد
الكاتب: غالية عيد
يوم تجديد البيعة للرئيس بشار الأسد
الكاتب: غالية عيد
ليلة الإنتخابات الرئاسية في 28 أيار/مايو 2014، لم أستطع النوم. غلبني شعور الحسرة والحرقة بقدوم هذا اليوم، وأحداث السنوات الثلاث من عمرالثورة. تذكّرت وجوه من رحلوا على يد هذا السفاح وأعوانهن، والمآسي التي خلّفها غيابهم عمّن أحبّوا. والبلد المحروقة التي تركها لنا لأننا لم نرضَ به رئيساً.
كنت أنتظر العد العكسي لساعة الصفر، تلك التي حدّدها الثوار لبدء الهجوم على إدلب المدينة، كي يمنعوا سير الانتخابات. رحت أقتل الوقت الثقيل بالصلاة في جوف الليل. أدعو الله أن يسدّد رميهم بضرب النقاط الامنية، وأن يحمي المدنيين من عشوائية وجنون القذائف، ومدفع جهنم، وأن يحمينا من يد النظام وعيونه في هذا اليوم.
الساعة السابعة، هدوء يسود المدينة.
السابعة والنصف. الوقت يمضي ولاشيء يحدث.
الساعة الثامنة، حركة خفيفة في المدينة تزداد مع مرور الوقت. في الشوارع أصوت أقدام الناس وهم يتوجهون نحو المراكز للانتخاب. غالبيتهم من موظفي الدولة، كان النظام قد بدأ بالحشد لهذه المناسبة قبل عشرة أيام. تم إبلاغ جميع موظفي الدولة، بوقاحة ليست غريبة عن هذا النظام، بضرورة الحضور والانتخاب تحت طائلة الفصل من العمل والملاحقة. الموظف الذي لا يجد سوى هذا الراتب الذي يتقاضاه من النظام، ليسدّ رمق عائلته هو أداة مسيّرة، وواجهة إعلانية يستخدمها النظام في مثل هذه المواقف. أنا ولكوني موظفة، شاء القدر لي أن أعمل في جهتين، تتبعان لوزارتين مختلفتين. كنت أتحسب في الأيام السابقة لمثل هذا الموقف.
إحدى الموظفات التي تدرّجت بفعل هذه الاوضاع، وبالتشبيح من رتبة مستخدمة إلى مديرة مكتب رئيسي في العمل، جاءت تحمل بيدها ورقة مكتوب عليها أسماء جميع الموظفين العاملين معي.
خاطبتني قائلة: “منذ يومين وأنا أبحث عنكِ ولا أجدكِ. لم يبق سوى انتِ من دون تبليغ وتوقيع”.
سألتها وأنا أمثّل دور من لا يعرف شيئا: “على ماذا أوقّع؟
أجابتني: “على الحضور يوم الانتخابات لكي نصوّت للدكتور بشار”.
قلت لها: “ولكنني تبلّغت في الجهة الثانية حيث أعمل، ووقعت على الحضور. فكيف أحضر في مكانين في الوقت نفسه؟ (طبعا هذا التبرير لم يكن ارتجالياً، انما هو نتيجة تفكير طويل بطريقة أتخلص فيها من حضور الانتخابات دون أن ألفت انتباه احد).
صمتت قليلاً، ثم أجابتني بنبرة غير المصدق تماماً: “حسناً دوّني هنا، قرب إسمك أنه تم تبليغك من الجهة الثانية”.
وبالفعل كتبت بجانب إسمي وبكل ثقة وبرودة أعصاب ماطلبت مني.
وفي الجهة الأخرى التي أعمل بها، تعرّضت لنفس الموقف، وكتبت بجانب إسمي أيضاً أنني سأحضر في الجهة الأخرى، ووقعت على أقوالي كالمجرمين. طبعا احتمال أن تكتشف إحدى الجهتين حقيقة الأمر، أو تقرير صغير من أحدهم كفيل بتغييبي في المجهول، في مجتمع ينبذ الأنثى التي تقع في أسر النظام، ويقتلها بيده ألف مرة. طبعا تتساو ى طرق التعذيب الجسدية والنفسية والجنسية في المعتقلات بين الجنسين، إلا أنّها دائما تدفع الضريبة الأكبر.
مع مرور الدقائق الثقيلة، بدأت قنوات النظام تنقل ما تسميه سير العملية الديمقراطية في المحافظات. كان والداي كلما ظهرت مدينة إدلب يبدأون بتفحص الوجوه التي يعرفونها، ممن سيقوا كالنعاج لمذبحهم إما تشبيحا أو خوفا. أنظروا فلان وأنظروا فلان. كنت أبكي كلما رأيتهم، بكاء العاجز الذي ينتظر معجزة تغير الواقع، بكاء الحسرة من منظر الضحية التي تعين قاتلها على قتلها.
الساعة العاشرة والنصف، بدأت الاقتراحات تنهال علي ممن حولي في محاولة لاقناعي بالذهاب، خوفاً على مستقبلي ووظيفتي.
بشار ناجح ناجح، بصوتك أو من دونه، هل تعتقدين أن سيخسر إن امتنعتِ عن التصويت. أنت تسببين الضرر لنفسكِ.
سيتركون أثراً على كل هوية تقترع، وعند استعمال الهوية لاحقا سيظهر من انتخب، وسيعتقلون من لم ينتخب.
لماذا لا تذهبين وتتقترعين بورقة بضاء، لم يراكِ أحد، وستكون الورقة لاغية.
وكيف لي أن أفعل أو اقتنع؟ أي احترام لنفسي سيبقى ؟ كيف أخون دماء الشهداء؟
الساعة الآن الحادية عشر، صوت مسيرة تشبيحية تجوب الشوارع، وهي تقترب من بيتنا. خرجت سريعاً لأرى. شباب وشابات يرتدون قمصاناً عليها صورة بشار ويهتفون “شبيحة للأبد، لأجل عيونك يا أسد” و”لو ضربونا بالنار غير الأسد ما منختار”. وعند اقترابهم من شرفتنا، تملّكني شعور غريب، أن أبصق عليهم من شدة غضبي وقهري. أعقب هذه المسيرة مسيرات، بسيارت وأعلام وصور مرفوعة تجوب الشوارع. كنت أتابعها على الواقع وعلى شبكة الأنترنت، حيث يشاركون صورها ومقاطعها، أولا بأول بأن هذه هي إدلب الأسد.
على صفحات الثورة السورية الخاصة بإدلب، بدأت تُنشَر المقالات، منها مايدعو لدكّ المدينة التي أصبحت معقلاً للشبيحة. مستشهدين بصور الشبيحة وأفعالهم. ومنها ما يدعو للعقلانية، وعدم التهور، وأن المدنيين مغلوب على أمرهم، مستشهدين بنداء وجهه أحد شرعيي كبرى الفصائل بعدم ضرب المدينة قائلا “لاتجمعوا على أهل إدلب ظلمين، ظلم النظام وظلم القذائف من أهلهم المجاهدين”. أثّر هذا القول بي كثيراً، لأنه يلمس حقيقة الواقع المعاش.
في هذه الأثناء بدأ طيران النظام يشن غارات مجنونة على ريف المدينة والقرى والمزارع المحيطة التي يسكنها الثوار والمجاهدون. والصفحات المؤيدة تؤازره وهي تتبجح بطيران النظام، وتحرّض على قتل الإرهابيين والمسلحين. هذا كان كفيلاً ببدء الهجوم من بعض الفصائل، التي لم تستطع الالتزام بضبط النفس بعد أن كان النظام هو البادئ بالاعتداء. وكمن يفرح بمصابه، كانت ولأول مرة في حياتي أصوات القذائف والجرار تطرب سمعي، مخالفة بذلك كل مبادئي في القصف العشوائي للمدينة. القذائف تنهال على المدينة، وأغلبها لا يصيب إلّا المدنيين. وحتى ماسقط منها في بعض مراكز الاقتراع، ربما أصاب أناساً أتوا بفعل إحدى المبررات التي قيلت لي، وهم ضمنيا يكرهون النظام. مع اشتداد القذائف والطيران بقي معظم من ذهب لإلى الاقتراع محجوزا في المراكز، يواجه نيرانا صديقة غاضبة لنا وعلينا وحبراً أسوداً يصبغ نهاية خنصر إصبعتهم. أُجبروا على غمسها بالحبر بعد الانتخاب وشماً للذل يرافقهم.
الوقت يمر الساعة الثالثة ثم الرابعة. النقاش يحتدم مع من حولي لإقناعي بالذهاب. حسمت أمري إن كنت اجبرت بسبب الضغوط الاجتماعية للبقاء في إدلب تحت سيطرة النظام، وفقدت روحي ضريبة لذلك لن أعيد الكرة وأقبل أن أفقد احترامي لنفسي مهما كلفني ذلك الامر.
انتهى ذلك اليوم بصناديق سوداء، تخبئ قصص من ملأها طوعاً أو كرهاً. وبعشوائيات لم تزد ذلك اليوم إلّا دموية وقهراً. أما أنا فماعاد يرعبني خطروبطش.