رحل عن الحياة وسكن بين أضلعنا
الكاتب: غزوة
رحل عن الحياة وسكن بين أضلعنا
الكاتب: غزوة
ما كنا نعلم أن سبب غيابه عن المنزل سيدفعنا للفخر بما يفعله حيناً والخوف والتزام الصمت حيناً آخر.
في دير الزور كنا نشارك في النهار بالمظاهرات وفي أواخر الليل نختبئ في بيوتنا لنسمع أصوات الاشتباكات والانفجارات تدوي في المدينة.
أخي شاب من مدينة دير الزور السورية في ربيع شبابه. سار كغيره في طريق الثورة السلمية، كما أوهمنا إلى أن جاء اليوم الذي افتضح فيه أمره مع أصدقائه. كانوا يهاجمون سيارات الأمن التي تنطلق من الأمن العسكري، ولكن عناصر الأمن انتبهوا لوجودهم والتفوا حولهم ففر بعضهم وتم اعتقال البعض.
حين سمعنا الخبر تركنا بيتنا خشية مداهمته، وخوفاً من أفعال الشبيحة الذين كنا نسمع بما يقومون به. تفرقنا وكل منا ذهب لمكان، وحينها بدأ الرعب يسكن قلوبنا خوفاً على أخي الذي ما عدنا نراه إلّا خلسة.
في تلك الفترة لجأنا إلى بيت أختي، ما كدنا نلتقط أنفاسنا فيه حتى جاء أخي وأخبرنا بأنه لم يجد بيتا في دير الزور يأويه هو وأصدقائه الذين خاطرو بحياتهم من أجل هذه المدينة بل هذا الوطن، ولذلك علينا أن نترك لهم البيت ليحتموا به ونعود الى بيتنا رغم الخطر الذي كان يتهددنا.
كانت ليلة شديدة الظلام غاب عن سمائها القمر. عدنا إلى بيتنا لتبدأ قصة التشرد التي عاشتها أختي وزوجهابعدما تركا بيتهما وهما لا زالا في الأشهر الأولى من زواجهما.
ما زلت أذكر تلك الليلة الموحشة بعد ما فرغنا من وداع أختي التي كانت ستسافر في الصباح إلى دمشق. كنت قد أمسكت كتابي لأباشر في الدراسة وإذ بأصوات الرصاص تحول هدوء دير الزور إلى عواصف. لم أرَ أمي قلقة هكذا من قبل، لم تنم خوفاً على ابنها الذي كانت تحس بوجوده بين الثوار.
أشرقت الشمس ويا ليتها لم تشرق. أنه يوم الثلاثاء 15 أيار/مايو 2012 ، أيقظتنا من نومنا أصوات الناس والضرب على باب بيتنا وقرع الجرس، جاء بعدها صوت أمي التي تصرخ مذهولة بهول الفاجعة “حمود استشهد”. علمنا أن أحد المخبرين من مدينتي قد أبلغ عن مكان اختباء أخي وأصدقائه، في أحد بيوت حي الجبيلة التي زين شوارعها الرصاص ولونها بالأحمر دم أخي الذي أصيب برصاصة في الرأس.
بكاء وصراخ وأصوات لم أسمعها من قبل، وقلب أمي يتحطم لفراق ابنها. تبكي تارة وتطلق الزغاريد تارة أخرى، فوق جسد ولدها الذي غسلته بدموعها وفارقها برصاصة.
رحل عنا وترك طيفه يسكن زوايا ذاكرتنا
رحل ومازال يعيش معنا في ليلنا ونهارنا
في حديثنا وصمتنا
في فرحنا وبكائنا
رحل تاركاً أباً يبكي وأماً تصرخ وأخوة أفجعهم القدر
هو رحل ولكن كل شيء يعيدنا اليه.